إنّ الحوار هو الوسيلة التي ينفرد بها البشر للتواصل فيما بينهم، واللغة هي رموز تلك الوسيلة، وتعدّ اللغة وعاءً تاريخيًّا للتعبير عن المشاعر، ومفردات للتكنولوجيا الحادثة في أيّ مجتمعٍ من المجتمعات أيضًا، والحوار ليس مجرّد نبذٍ أو نطقٍ لمفردات اللغة دون معنى مقصود، أو دون خريطة تدفّق للمعاني في ذهن المتحاورين، بل هو حوارٌ هادف، ووسيلة الحوار تلك لا تنحصر في اللغة المنطوقة فحسب، بل هناك اللغة غير المنطوقة، والمتمثّلة في الإشارات والإيماءات والتعبيرات الجسديّة، كحركة الوجه، واليدين، ونظرات العينين، وحتّى الإحساس المتبادل بين الطرفين هو أيضًا مكوِّن من مكوِّنات لغة التواصل، وهناك منطقٌ ذهنيٌّ يربط كلّ هذا ببعضه البعض في نسقٍ يهدف إلى قبول الطرف الثاني لما يتمّ النطق به، وهو ما يُطلق عليه الحِجاج، إذًا فما هو الحِجاج؟ تعالوا بنا نتعرّف عليه من خلال مقالنا هذا، فتابعونا.
ماهيّة الحِجاج
عندما يثور جدالٌ بين طرفين حول قضية (س)؛ لإثباتها من قِبل الطرف الأوّل الذي يؤمن بها، والطرف الثاني الذي يحاول إثبات العكس، فيسوق كلٌّ منهما دلائله، وفقًا لما لديه من معطيات عن تلك القضيّة، فإنّ كلّ نكوصٍ للطرف الأوّل يعدّ إثباتًا لما ذهب إليه الطرف الثاني،
والعكس صحيح، فكلّ نكوصٍ للطرف الثاني يعدّ إثباتًا لما ذهب إليه الطرف الأوّل، وكلّ ما ساقه الطرف الأوّل والثاني لإثبات أو نفي للقضية (س) هو حِجج، أمّا ما دار بين الاثنين حولها فهو حِجاج.
وعليه فإنّ الحِجاج هو: “سياق الدفع المنطقيّ لإثبات أو نفي العلاقة بين متغيرين، يكون أحدهما مُعطى والثاني نتيجة، فإذا تمّ الإثبات أو النفي صار الدفع دليلًا، والعلاقة التي تربط بين المعطيات والنتيجة برهانًا، وصار الإثبات أو النفي حُجّة، والقضية كلها حِجاجا، ومن ثبت رأيه فهو حجيج، ومن ثبت خطأه فهو مُحاجَج”.
أدوات الحِجاج
تتمّ عمليّة الحِجاج شأنها شأن التفكير المنطقيّ، الذي ينتقل من المعطيات إلى النتيجة المنطقيّة، وفقًا لآليّات محدّدة، يمكن تناولها على النحو التالي:
القياس
يعتبر القياس أوّل آليّة منطقيّة للحِجاج؛ حيث يتّخذ من مسلّمةٍ ما محلّ اتفاقٍ ولا خلاف عليها، أرضيّةً مشتركةً ليبني عليها رأيه ومحاججته، فيقيس ما هو مجهول والذي هو محلّ خلافٍ على ما هو معلوم، لعلّةٍ مشتركةٍ بينهما، ثمّ يَخلُص إلى حُجّة مؤدّاها صحّة حُجته؛ لصحّة العلاقة القياسيّة التي ساقها لإثبات الرأي الذي ذهب إليه.
الاقتضاء
ويُطلق عليه الحتميّة المنطقيّة، فإذا كان كلٌّ من (أ) و (ب) قيمتين متساويتين، فإن نتيجة (أ) + (ب) حتمًا ستكون أكبر من كلٍّ من (أ) أو (ب) منفردين، وأيضًا مجموعهما أكبر بالضرورة من طرحهما، وكذلك فإنّ (أ) بالضرورة يعدل (ب) للتساوي الذي بينهما، أي بالاقتضاء أو الحتميّة المنطقيّة. وكذلك إذا كانت (س) تساوي (ص)، و (ص) تساوي (ع)، فإنّه حتمًا وبما لا يدع مجالًا للشكّ فإنّ (س) تساوي (ع)، وهو ما يستلزم معه أن يكون الاقتضاء آداة للحِجاج.
السلطة
توجد سلطة للسياق المنطقيّ بداخل ذهن كلّ شخصٍ يفكّر بطريقةٍ حرّة؛ ممّا يجعل من العلاقة المنطقيّة سلطةً تفرض نفسها، لا يمكن ردّها لما هو أقلّ منها من دليلٍ أو منطق، وهنا يرتقي الدليل إلى قوّة الحُجّة في مواجهة الطرف الآخر.
القيمة القانونيّة
لكلّ علاقة بين كلّ سبب ونتيجة قيمةٌ قانونيّة، تختلف درجتها باختلاف وزنها النسبيّ في تلك العلاقة، ومدى مقدارها في تحقيق النتيجة، ويرجع إليها قيمة الحُجّة التي يترتّب عليها مصير الحِجاج.
النتيجة التحليليّة
تعتبر النتيجة النهائيّة تحليلٌ لكلّ ما سبق من أدوات؛ فهي برهانٌ منطقيٌّ لا يمكن ردّه في قبول الرأي الآخر، وما ساقه من حِجج؛ وبالتالي يُصبح الطرف الأوّل ذا حُجّة، أي حجيج، والطرف الثاني مُحاجَج، أي غلبته الحُجّة.
مبادئ الحِجاج
هناك عدّة مبادئ ليكون الحِجاج ذا نتيجة، أي ينتهي إلى مسلّمة، وإلّا سيصبح جدالًا ومساجلةً غير منتهية، ويمكن تناول تلك المبادئ في الآتي:
التدرّج
يعتبر الحِجاج عمليّة متدرّجة؛ فهو يسير في تسلسلٍ منطقيٍ من البسيط إلى المركّب، ومن السهل إلى الصعب، وهكذا، حتّى يسوق الحُجّة تلو الحُجّة لانتهاء الحِجاج.
النسبيّة
يعتبر تسلسل الحِجاج تسلسلًا نسبيًّا، بمعنى أنّه ليس هناك ما يمكن قبوله قبولًا مطلقًا، أو رفضه رفضًا مطلقًا، فيكون القبول أو الرفض درجاتٍ، من القويّ إلى الضعيف في الحُجّة.
التسليم
لابد أنّ ينتهي الحِجاج إلى مُسلّمة، وهي ثبوت أو نفي القضيّة، وكلا الأمرين على درجةٍ واحدة؛ فإذا نجح أحدهم في إثبات قضيّته، فتلك حُجّة إثبات، وإذا نجح الآخر في نفيها، فهي حُجّة نفي، ومن صارت له الحُجّة، فهو الحِجاج.
اقرا أيضا
- ما هي الحكومة
- العدالة الاجتماعية
- ما هو الفكر
- تعريف السوق
- تعريف العنصريّة
- تعريف الفلسفة
- تعريف الوطن
- تعريف العولمة
- ما هي الأمانة
يعتبر الحِجاج أسلوبًا منطقيًّا في التفكير، يناسب الفطرة السليمة؛ فيجب على التربويين والسياسيين استغلاله في مواجهة الحُجّة بالحُجّة، والرأي بالرأي؛ لعدم استقطاب الشباب الذي يمتاز بملكة الحِجاج إلى أطرافٍ أخرى.