تعتبر الملاحة البحريّة، والسفر عن طريق ركوب البحر، من أجمل الأوقات الممتعة التي يمكن أن يمرّ بها الإنسان أثناء سفره، ولاسيما إن كان من هواة السفر والترحال عن طريق البحر، وكذلك من يقطنون المدن الساحليّة، وينظرون إلى البحر وأمواجه المتلألئة تحت ضوء الشمس البرّاق، فيرون كم هذا المنظر ذو جمال خلّاب، ولكن في بعض الأوقات- التي بدأوا يعتادونها- وحين يطلّ عليهم القمر بوجهه الجميل، يهيج البحر حتّى يظنّ من فوقه بأنّه ملك جبّار غاضب، ومن ينظر إليه يراه كأنّه أخطبوط يمدّ لسانه إليه ليلتهمه، يا تُرى ما الذي يقلب حال البحر رأسًا على عقب، إنّه المدّ والجزر، فمتى يحدث المد والجزر، هذا هو موضوع مقالنا، فتابعونا.
ماهيّة المدّ والجزر
المدّ والجزر مصطلحان متناقضان، فالمدّ يعني ارتفاع المياه، بينما الجرز فيعني انخفاض وانحصار الماء، وهما ظاهرتان طبيعيّتان متعاقبتان، تحدثان بكلٍّ من مياه البحار والمحيطات، ويرجع ذلك إلى ميكانيزم الظواهر الطبيعيّة، والعلاقات الفيزيائيّة المتبادلة بين الأجرام السماويّة من أقمار وكواكب ونجوم.
وعليه يمكن تعريف المدّ والجزر بأنهما: “عمليّتان عكسيّتان تنسحب المياه في إحداهما إلى أعلى الشطآن، نتيجة لقوّة جذب القمر لها، وتسمى هذه العمليّة بالمدّ، ثمّ ينحسر الماء عن الشطآن لتلاشي قوّة جذب القمر لها، وتسمّى هذه الحالة بالجزر”.
أسباب المدّ والجزر
من المعلوم أنّ الأرض تدور حول محورها، والقمر يدور على امتداد الأرض، وكلاهما يدوران حول الشمس، ولكلّ منهما دورته، وأن الأرض تمسك الماء بقوّة جاذبيّتها له، ويتجاذب القمر الماء مع الأرض، فيحدث المدّ والجزر، ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتي:
أوّلًا: ظاهرة المدّ
وتحدث تلك الظاهرة لسببين، نوضحهما فيما يلي:
#1 قوّة الطرد المركزيّ:
أثناء دوران الأرض حول نفسها يدور الماء معها لدورانها، وكردّ فعل معاكس لهذا الدوران- طبقًا لقانون نيوتن- يحاول الماء الفكاك من جاذبيّة الأرض، ولكن تظلّ الأرض ممسكةً به؛ لكون قوّة الجاذبيّة أكبر من قوّة الطرد المركزيّ الحادثة.
#2 قوّة جذب القمر:
عندما يكون القمر بدرًا، أو محاقًا، فيكون في تلك الحالة في مواجهة الشمس ومواجهة الأرض معًا، على صورة رأس مثلث؛ ممّا يعمل على جذب الماء، فتتعاضد كلّ من قوّة الطرد المركزيّ مع قوّة جذب القمر، فتحدث ظاهرة المدّ بارتفاع الماء لمسافة قد تصل إلى حوالي مترين عن الارتفاع المعتاد.
ثانيًا: ظاهرة الجزر
عند دوران القمر بعيدًا عن امتداد الأرض،
تضعف قوّة جاذبية القمر للماء؛ نتيجة لزيادة بعد القمر عن الأرض إلى أقصى درجة لها، ومع قوّة جذب الأرض للماء، لا يصبح لقوّة الطرد المركزيّ الناتجة عن دوران الأرض فاعليّتها الأولى، كما في حالة الجزر فينخفض الماء، وينحسر عن الشطآن.
مواقيت المدّ والجزر
يحدث المدّ والجزر عدّة مرات خلال اليوم، ويبلغ ذروته مرّتين خلال الشهر، ويمكن تناول ذلك على النحو الآتي:
ميقات المدّ والجزر الأصغر:
تدور الأرض حول محورها كلّ أربع وعشرين ساعة، فيتعاقب الليل والنهار، وحالَ يكون نصفها الأول في مواجهة الشمس، يكون النصف الآخر على العكس من ذلك، ولكن يكون أقرب ما يكون من القمر، فيحدث المدّ في هذا النصف من الأرض، بينما يكون الجزر في النصف الآخر.
وكذلك في نصف الدورة الآخر، يصبح نصف الأرض في مواجهة الشمس، وأبعد ما يكون من القمر، فيحدث الجزر، بينما يكون النصف الآخر في حالة مدّ، وتحدث هذه العمليّة بالتبادل كل 12 ساعة، إذًا فالمد والجزر يحدث كلّ منهما كلّ 12 ساعة بالتناوب فيما بينهما، ويبلغ ارتفاع المدّ حوالى 30 سم.
ميقات المدّ والجزر الأكبر:
ويحدث هذا مرتين في الشهر، عندما يكون القمر بدرًا، أو محاقًا، فيكون المدّ أكبر ما يكون؛ حيث يبلغ ارتفاعه حوالي 2م ، بينما الجزر في النصف المقابل أدنى ما يكون.
فوائد المدّ والجزر
تتعدّد فوائد ظاهرة المدّ والجزر، ما بين الفوائد التي يستطيع الإنسان استغلالها، وما بين الفوائد التلقائيّة التي تحدث مباشرةً، ويمكن إيضاحها في الآتي:
- زيادة الدخل القوميّ: وذلك بزيادة نسبة الصيد للأسماك المهاجرة مع عمليّة المدّ، وكذلك الأسماك التي يدفعها المدّ إلى الشاطئ.
- مساعدة الملاحة: حيث تساعد عمليّة المدّ على سهولة رسو السفن في المرافئ.
- المحافظة على البيئة: حيث يلتقط المدّ الملوّثات التي على الشواطئ، ويسقطها الجزر إلى القاع والتخلّص منها.
- نشر المغذّيات: يعمل المدّ على نشر المغذّيات العضويّة البحريّة؛ ممّا يستفيد منها الإنسان.
يعدّ المدّ والجزر من لغة البحر التي يعلو فيها صوته ويخفت، ولقد استفاد الأقدمون من تلك الظاهرة، بعمل الطواحين البحريّة، وإدارة السواقي، ونحن في القرن العشرين نترك البحر يهدر كلّ طاقته، فهل يمكن لنا العودة إلى الطبيعة للاستفادة منها مرةً أخرى، الجواب لك.