تعدّ النفس البشريّة منذ القدم مثار تساؤل وجدل كبير بين الفلاسفة، وعلماء الدين، وعلماء المخّ والأعصاب، وكلّ منهم يُدلي بدلوه، وكلّ فريق بما لديه يظنّ أنّه قد أصاب كبد الحقيقة، ولقد تناولت بعض الكتب السماويّة النفس البشريّة صراحةً بنفس الاسم، والبعض الآخر تناولها بالتنويه عنها دون أن يصرّح بها، ومازالت النفس البشريّة مطروحة على بساط البحث، وهي موضوع مقالنا، فتابعونا.
ماهيّة النفس وتعريفها
عندما يتناول العلماء موضوع النفس بالبحث، والحديث عنها، فهي تنسحب إلى النفس البشريّة دون غيرها، حتّى ولو لم يصرّح بذلك صراحة؛ حيث أنّ الإجماع على أنّ النفس تكون في المخلوقات البشريّة فقط دون غيرها، فلا نفس للجماد، أو الحيوان، أو الطير، أو الحشرات، أو الجنّ- لمن يعتقد بوجود الجنّ- وبعض مَن يعتقدون بوجود الجنّ يرون أنّ لهم أنفسًا كالبشر تمامًا.
والنفس البشريّة تشير إلى الوازع الداخليّ لدى الإنسان، من عقل، أو ضمير، أو إرادة، وعند تعريف النفس لا يمكن إطلاق التعريف كما لو كان يعبّر عن كلّ الآراء المتّفق عليها، وعليه يمكن تعريف النفس البشريّة فلسفيًّا بأنّها: “الأنا العليا لدى الإنسان، والتي هي جزء معنويّ من تكوينه، يولد بها وتنكمش (تتضاءل)، أو تتعاظم بالتفاعل مع المجتمع”.
ودينيًّا “هي الإنسان ذاته بما له من روح وجسد “، وأيضا “هي الضمير الداخليّ لدى الإنسان”، ويقال: “أنت لا تملك نفسًا، بل أنت نفسٌ تملك جسدًا”.
مكوّنات النفس البشريّة
على اعتبار تبنّي الرأي القائل بأن النفس البشريّة هي الإنسان ذاته، بما له من روح وجسد، وعليه يمكن تناول مكوّنات تلك النفس على النحو الآتي:
الجسد
يعتبر الجسد هو النفس البشريّة الظاهرة، أو النفس البشريّة المتجسّدة، وهذا الجسد يمتلك آليّات الحياة، من أعضاء تشريحيّة داخليّة وخارجيّة، وآليّات الحسّ، والسمع، وكلّ هذه الأدوات هي مقوّمات النفس البشريّة، التي تتفاعل بها مع المحيط الخارجيّ، والتي تكتسب بها الحياة الماديّة، فالجسد البشريّ هو المظهر الخارجيّ للنفس، وفناؤه هو فناء للمظهر الخارجيّ لها دون فنائها ذاتها.
العقل
وهو جزء النفس المتدبّره، والذي يُميّزها عن بقيّة المخلوقات الأخرى، والذي يُكسبها تراكم التاريخ الثقافيّ؛ حيث يرجع إليه تميّز النفس البشريّة بالثقافة بمعناها الواسع، من حضارة وتكنولوجيا، ويعطيها السلوك البشريّ غير المبنيّ على الفعل وردّ الفعل، أي السلوك المبنيّ على التفكير والعاطفة من حبٍّ وكراهية، والتمييز بين النافع والضارّ المبنيّ على الاحتمال والتوقّع العاقل، ويُكسبها مهارات التعلُم والتفكير واللغة، وهي من أهمّ ما يميّز النفس البشريّة، عن بقيّة الكائنات الأخرى.
الروح
وهو المكوّن الباعث على الحياة، وهو الرابط بين الجسد والنفس، فبدون الروح تُصبح النفس ذات جسدٍ بدون حياةٍ نابضة، وتفقد جميع مقوّمات الحياة بتعطّل الجسد عن ممارسة خصائصه الحيّة، من مأكل وتنفّس وتمثيل غذائيّ، ويتعرّض الجسد للعطب والفناء، وتتجرّد النفس البشريّة من مظهرها الخارجيّ المتمثّل في الجسد، فالروح واحدة والأنفس متعدّدة، أي أنّ الجزء المشترك بين كلّ الأنفس هو الروح، والذي تتفرّد به كلّ نفس بشريّة عن الأخرى هو العقل والجسد.
النفس البشريّة والإرادة الحرّة
تتفرّد النفس البشريّة بما تمتلكه من الإرادة الحرّة المبنيّة على التفكير والتدبّر، واتّخاذ القرار، والتمييز بين النافع والضارّ، المبنيّ على القياس وتوقّع النتيجة المحتملة، والحساب، والمنطق، والقياس بين المتماثلات، وتُرتِّب على هذا ما تراه من قرار يعبّر عن إرادتها، وكذلك تتميّز بالاعتقاد الدينيّ المبنيّ على الغيبيّات، فالنفس البشريّة هي التي تمتلك طقوسًا دينيّة، وأماكن لممارسة تلك الطقوس بإرادتها الحرّة، وتمتلك وعاءً من العادات والتقاليد التي تعبّر عن هويّتها، بما تراه من إرادة وتدبير.
لقد تحدّث الإنسان قديمًا وحديثًا عن النفس البشريّة، واستفاض في ذلك كثيرًا، وعلى الرغم من أنّه هو ذاته نفسٌ من الأنفس البشريّة، إلّا أنّ القطع بماهيّتها مازال معضلةً يعجز عن البتّ فيها، فسبحان من خلقها فسوّاها، وألهمها فجورها وتقواها.
النفس هي نفسها الروح (او هي الروح بعد دخولها الجسد)