يزخر التاريخ الإسلاميّ، برجالاتٍ كُثر، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحملوا على عاتقهم رسالة الدعوة الإسلاميّة- كل في مجاله- فمنهم من استشهد في ميدان الجهاد، ومنهم من أفنى حياته في الترحال باحثًا عمّا يرويه حديثًا صحيحًا، ومنهم من غزا فاتحًا حتّى وصل حافة المحيط، وغيرهم الكثير ما لا يحصوا عددًا،
والإمام الطبريّ واحد من هؤلاء الرجال المعدودين، الذين أفنوا حياتهم في محراب العلم، فقد تتلمذ على أيدي علماء وأئمّة كبار، ولازالت الأمة تنهل من علمه؛ ليكون لها نبراسًا تهتدي به، فعاش حياته للعلم، ومات في سبيل العلم، ولكن كيف مات الطبريّ، فهو موضوع مقالنا، فتابعونا.
نبذة عن الإمام الطبريّ
يعدّ الإمام محمد بن جرير الطبريّ راهبًا في محراب العلم، وسوف نوضّح جانبًا من شخصيّته على النحو الآتي:
مولده ونشأته:
ولد محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الملقّب بإمام المفسرين، في عام 224ه- 839م، بمدينة (آمل) عاصمة طبرستان، وإليها ينسب؛ حيث نشأ وتربّى، وكان أبوه رجلًا متديّنًا ورعًا، على قسط من العلم، وبفراسة الرجل المؤمن استشرق في ابنه النبوغ وحبّ العلم.
فقام بتوجيهه إلى حفظ القرآن الكريم مبكّرًا، واستبشر خيرًا برؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وابنه واقفًا بين يديه، فقصّها عليه لتحميسه وتحفيزه للإقبال على العلم، وقد كان، فشبّ الطبريّ على حبّ العلم والبحث عنه أينما كان.
فسافر إلى الرِّيّ، وبغداد، ومصر، ومكث بها طويلًا، وأخذ عن علمائها الفقه الشافعيّ، وعلوم المالكيّة، ثمّ عاد إلى بغداد وأمضى بها بقيّة حياته.
زهد الطبريّ وورعه:
كان والد الطبريّ ميسور الحال، فخلّف له بستانًا، كان يتعيّش منه، رافضًا كلّ عطايا الأمراء والملوك، وينأى بجانبه إلى العلم بعيدًا عن السلطة، ولا يتودّد إلى أحد فيها، متواضعًا، متفرغا للبحث والتأليف والتفسير.
وحين عرضت عليه ولاية القضاء رفضها تحرزًا، وقال الإمام ابن كثير أنه كان من كبار الصالحين، محبًّا للحقّ لا تأخذه فيه لومة لائم، فقد كان خلوقًا بأخلاق أهل العلم.
أهمّ مؤلفات الطبريّ
وهب الطبريّ حياته للعلم، وترهبن في محرابه، فلم يتزوّج، ولم يشغل نفسه سوى بالعلم، وانكبّ على مدارسته، وتدريسه، والتأليف في صنوف فروع العلم، وسوف نتناول أهمّ مؤلفاته كما يلي:
جامع البيان عن تأويل آي القرآن: والمشهور بتفسير الطبريّ، وهو مؤلَّف جامع بين التفسير، والفقه، والتاريخ، وهو كتاب إمام في التفسير، ويعدّ مرجعًا للباحثين والعلماء في هذا المجال.
تاريخ الأمم والملوك: وفي طبعات أخرى تاريخ الرسل والملوك، والمشهور بتاريخ الطبريّ، وهو مؤلَّف موسوعيّ، لا يعتمد على السرد التاريخيّ للأحداث فحسب، بل يتّبع فيه ما يطلق عليه حديثًا منهج البحث العلميّ، وهو مؤلّف يخصّ العامّ والخاصّ، فكلّ منهما يجد فيه بغيته.
التبصير في علوم الدين: وهو كتاب بحثيّ في العلوم الدينيّة والأصوليّة، ذو أسلوبٍ سلس، يفهمه المتخصّص، وغير المتخصّص.
آداب النفس الجيّدة والأخلاق النفيسة: وقد ضمّن هذا الكتاب خلاصة فلسفته عن الحياة، وأدب النفس، والأخلاق الحميدة، فإن لم تتح الفرصة للطبريّ أن يكون أبًا، فكان كل تلامذته أولادًا له، وهذا الكتاب مثالٌ للتربية الصالحة، ومعينٌ للآباء في التأديب، وغيره الكثير من المؤلّفات القيّمة، التي لا يجب أن تخلو منها مكتبة.
كيف مات الطبريّ
أفنى الطبريّ حياته مجاهدًا في ساحة العلم، ورزقه الله عمرًا طويلًا، وصحةً جيدة؛ حيث عاش ما يقرب من الخمس والثمانين عامًا، وهو في شعر رأسه ولحيته سوادٌ كثير، ومات في أواخر شهر شوال عام 310ه- 923م، بعد أن مَرِض مَرَض الموت.
وكعادة أهل العلم الذين يؤثرون الحقّ، ولا يمالقون أحدًا، فقد اتّهمه من لم تأخذه آثارة من علمٍ بالإلحاد- حاشى لله- ومنهم من رماه بغير ذلك، فمنعوا دفنه نهارًا، فتمّ دفنه ببيته، في (رحبة يعقوب)- حيّ الأعظميّة ببغداد اليوم- وصلّى عليه خَلقٌ كثيرٌ، وقيل امتدّت صلاة جنازته على قبره شهورًا.
مات الطبري ودفن، وهذه هي سنة الحياة، ولكن هل مات الطبريّ فعلا؟!، والإجابة طبعًا بالنفي، فهناك من الناس من هم أحياء وبين الأحياء أموات، ومنهم أمواتٌ وهم بين الناس أحياء، والطبريّ بما خلّفه من ميراثٍ علميٍّ، حيٌّ بعلمه وإن بليَ الجسد.